مات الأحنف بن قيس بالكوفة, فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء, وقال: اليوم مات سرُّ العرب, فلما دُفن قامت امرأةٌ على قبره فقالت: {لله درك من مُجَنٍّ في جَنَن(1), ومُدرجٍ في كَفَن, نسأل الذي فجعنا بموتك, وابتلانا بفقدك, أن يجعل سبيل الخير سبيلك, ودليل الرشد دليلك, وأن يُوسع لك في قبرك, ويغفر لك يوم حشرك, فوالله لقد كنتَ في المحافل شريفًا, وعلى الأرامل عطوفًا, ولقد كنت في الحي مُسوَّدًا, وإلى الخليفة مُوفَدًا, ولقد كانوا لقولك مستمعين, ولرأيك مُتبعين},ثم أقبلتْ على الناس وقالت: {ألا إنَّ أولياء الله في بلاده, شهودٌ على عباده, وإني لقائلة حقًّا, ومُثنية صدقًا, وهو أهل لحُسن الثناء, وطيب النّثا(2) , أما والذي كنتَ من أجله في عُدَّة, ومن الحياة إلى مدَّة, ومن المقدار إلى غاية, ومن الإياب إلى نهاية, الذي رفع عملك, لمَّا قضى أجلك, لقد عشتَ حميدًا مودودًا, ومُتَّ سعيدًا مفقودًا}, ثم انصرفتْ وهي تقول:
للهِ درُّكَ يَـا أبَــا بَـحْـرِمَاذَا تَغيَّبَ منْكَ فِـي القَبْـرِ
للهِ درُّكَ أيُّ حَشـوِ ثَــرًىأَصْبحتَ مِنْ عُرْفٍ ومِن نُكْرِ
إنْ كَانَ دَهْرٌ فِيكَ جَـرَّ لَنَـاحَدَثًا بِهِ وَهَنَتْ قُوَى الصَّبْـرِ
فَلَكَـمْ يَـدٍ أَسْدَيْتَهَـا وَيَــدٍكَانَتْ تَرُدُّ جَرَائِرَ الدَّهْرِ(3)
ثم انصرفتْ فسُئل عنها, فإذا هي امرأته وابنة عمه, فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة قط أبلغ ولا أصدق منه...*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المُجَنّ: المستتر, الجَنَن: القبر.
(2) النّثا: ما أُخبِرتَ به عن الرجل من حسن أوسيء.
(3)الجرائر: جمع جريرة وهي الجناية الذنب.
* الخبر في زهر الآداب وثمر الألباب للحُصري (2/58-59)